فصل: قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيها سِراجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا}. هو عرض لبعض آثار رحمة الرحمن في خلقه، وأنه سبحانه، {جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيها سِراجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا}.. أفليس ذلك من آثار رحمة اللّه؟ وكيف كانت تكون الحياة على هذه الأرض، ولا شمس ولا قمر؟
وقوله تعالى: {تَبارَكَ} أي تمجد، وتقدّس، وكثرت آلاؤه ونعمه.
فهو- سبحانه- يمجّد ذاته، وإن لم يمجده الضالون المجرمون من خلقه وهو سبحانه جدير بأن يحمد ويمجّد من عباده الذين أسبغ عليهم نعمه ظاهرة، وباطنة والبروج: هي مدارات الكواكب، ومنازلها.
والسراج: هي الشمس.
والقمر المنير: هو القمر، الذي يستمد نوره من الشمس، وقد وصف بأنه منير، ولم يوصف بأنه مضىء، لأن النور خلاف الضوء، فالنور لا حرارة فيه، على خلاف الضوء، والنور ليس ذاتيا، وإنما هو متولد من وقوع الضوء على الأجسام، وقد أشرنا إلى ذلك في سورة يونس، عند تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [الآية: 5].
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُورًا}. ومن آثار رحمة اللّه، أنه جعل الزمن على هذه الأرض خلفة بين الليل والنهار، حيث يخلف أحدهما الآخر، ويحلّ محلّه.
وفي هذا آية لمن أراد أن يتذكر، ويتعظ، إذا لم يكن قد وجد في آيات اللّه المبثوثة في الكون طريقا إلى التذكر والاعتبار، أما من وجد التذكر والاعتبار في غير هذه الآية، فإنها تزيده تذكرا واعتبارا، كما تزيده شكرا وحمدا، لآلاء اللّه. ونعمائه.
قوله تعالى: {وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا} تعرض هذه الآية والآيات التي بعدها، الصفات الكريمة التي يتصف بها أولئك الذين استحقوا أن يضافوا إلى اللّه سبحانه، وأن يحسبوا في عباده، أما غيرهم ممن لا يتحلّون بهذه الصفات، فإنهم ليسوا أهلا لهذا المقام ولا موضعا لهذا الشرف العظيم، وأن هؤلاء الذين قيل لهم اسجدوا للرحمن فأنكروا هذا، وقالوا: وما الرحمن؟- هؤلاء ليسوا من عباد الرحمن، ولن يكونوا من عباده، ما داموا على حالهم تلك.
عباد الرحمن، من هم؟
أما عباد الرحمن الذين يستحقون هذا الشرف العظيم، فهم هؤلاء الذين جاءت تلك الآيات، تكشف عن صفاتهم التي يتحّلون بها، والتي تؤهلهم لهذا المقام الكريم.
وهذه الصفات التي يتحلّى بها عباد الرحمن، هي أنهم:
{يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا}.
والمشي الهيّن على الأرض، هو دليل على التواضع، ولين الجانب، وسماحة الخلق، بخلاف المشي الذي يضرب وجه الأرض، تيها وفخرا، وقد نهى اللّه تعالى عنه في قوله: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا} [37: الإسراء].
{وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا} أي أن عباد الرحمن لا يلقون فحش القول وهجره، بفحش، وهجر مثله، فإذا رماهم السفهاء بالكلمة الخبيثة أعرضوا عنهم، وقالوا: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ} [55: القصص].
وليس هذا المشي الهيّن، أو الإمساك عن الفحش من القول، هو عن ضعف وذلّة، وإنما هو عن قوة نفس، ومتانة خلق، وكرم طبيعة، وكلّ إناء ينضح بما فيه، وكل شجرة لا تعطى إلا من ثمرها، فالشجرة الطيبة.
تعطى ثمرا طيبا، والشجرة الخبيثة لا تعطى إلا ثمرا خبيثا.
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيامًا} أي ومن صفات عباد الرحمن أن قلوبهم لا تخلو من ذكر اللّه أبدا، وأنهم يقضون نهارهم في كفاح وعمل، فإذا جهّم الليل أقبلوا على ربّهم بالعبادة والذكر، راكعين ساجدين، والليل هو أنسب الأوقات للعبادة، ومناجاة اللّه سبحانه وتعالى، حيث تسكن النفوس، وتجتمع الخواطر، وتهدأ القلوب، فيجد الإنسان منطلقه في عالم الروح، وقد انزاحت من طريقه السدود التي يقيمها ضجيج الحياة، ولغط الأحياء أثناء النهار، وقد نوه القرآن الكريم في أكثر من موضع بشأن العبادة في أوقات الليل، وما للعابدين عند اللّه في تلك الأوقات، من رضا ورضوان، فيقول سبحانه للنبى الكريم. {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا} [78- 79: الإسراء]. ويقول له سبحانه: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}. [1- 6: المزمل] ويقول سبحانه في وصف المتقين من عباده، وما أعدّ لهم من جزاء عظيم: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [15- 18: الذاريات].
وفي قوله تعالى: {لِرَبِّهِمْ}- إشارة إلى أنهم يقصرون عملهم كله بالليل على ذكر اللّه، لا يذكرون إلا اللّه جلّ وعلا، لا يشغلهم شيء عن ذكره. فاللام هنا للاختصاص.
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا} أي أن عباد الرحمن هؤلاء، إنما يعبدون ربّهم، وهم من عذاب ربّهم مشفقون، إن عذاب ربّهم غير مأمون، فهم مع طمع ورجاء في رحمته، وخشية وخوف من بأسه وعقابه، هكذا حال المؤمنين باللّه، لا يأس من روح اللّه، ولا أمن من بأسه وعذابه.
وقوله تعالى: {إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا} أي أنها- نعوذ باللّه منها- لا يلقى أهلها إلا السوء والوبال، فهى أشأم وأسوأ مكان، فكيف إذا كان هذا المكان مستقرا ومقاما لا يتحول عنه أهله؟ إن أهله أشقى خلق اللّه، وأنكدهم حظّا، وأشأمهم مصيرا.
{وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوامًا} وهذه صفة أخرى من صفات عباد الرحمن، إنهم يلزمون الطريق الوسط في حياتهم، وفي كل شان من شئونهم، فلا إفراط، ولا تفريط، فإن خير الأمور أوساطها، وأكثر ما يتجلّى هذا المبدأ في إنفاق المال، حيث هو عملية مستمرة، يقوم بها الإنسان مرات كل يوم، سواء أكان غنيا أم فقيرا.
كلّ ينفق حسب ما معه من مال.
والإسراف، هو مجاوزة الحدّ في زيادة المطلوب في النفقة والتقتير، هو الإمساك دون الحدّ المطلوب.
وقوله تعالى: {وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوامًا} أي وكان إنفاقهم وسطا، وقواما، بين الإسراف، والتقتير.
{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتابًا}.
ومن صفات عباد الرحمن أيضا، أنهم لا يشركون باللّه شيئا، ولا يدعون معه إلها آخر، بل عبادتهم خالصة للّه، ودعاؤهم متجه إليه وحده، وأنهم لا يقتلون النفس التي حرّم اللّه إلا قصاصا، وأنهم يحصنون فروجهم فلا يأتون الفاحشة، فإن من يفعل شيئا من هذه الكبائر، لن يكون في عباد اللّه هؤلاء للكرمين، بل إنه سينزل منازل المجرمين، أصحاب النار.
وقوله تعالى: {يَلْقَ أَثامًا} أي أن من يفعل هذه الآثام يلق أثاما مثلها، فهذه الآثام منكرات، والعذاب الذي يساق إلى فاعلها، ويلقاه، هو عذاب منكر شديد.
وقوله تعالى: {يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا} بيان لما يلقى مرتكبو هذه المنكرات الغليظة من العذاب، والهوان يوم القيامة.
فهم أكثر الناس عذابا يومئذ، لأن جرائمهم الثلاث تلك، من أعظم الجرائم.
وهي الشرك باللّه، وقتل النفس التي حرم اللّه، والزنا، فإذا عذب غيرهم من المعذبين بألوان من العذاب، فإن ما يلقاه هؤلاء، أضعاف ما يلقاه المعذبون من أهل النار غيرهم.
وقوله تعالى: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا} الخلد والخلود، هو اللصوق بالأرض في ذلة ومهانة، والضمير في {فِيهِ} يعود إلى العذاب الذي لا يخرج منه، بل يعيش فيه، مستكينا، ضارعا، ذليلا، مهينا.
وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.
هو استثناء من عموم الضمير الواقع فاعلا في قوله تعالى: {يَلْقَ أَثامًا} أي ويستثنى من الوقوع في هذا العذاب، من تاب من هؤلاء المرتكبين لتلك الآثام من آثامه، ورجع إلى اللّه، مؤمنا به غير مشرك، مستقيما على ما أمر به، من عدل وإحسان، فلا يقتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق، ولا يزنى، فمن اجتنب هذه الكبائر، فإنه لن يلقى هذا المصير، بل يخرج من زمرة هؤلاء المجرمين، ويأخذ طريقه مع عباد اللّه المكرمين.
وقوله تعالى: {فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ}- إشارة إلى أن هؤلاء التائبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قد قبلهم اللّه في عباده، وأنه سيبدل سيئاتهم تلك حسنات، فإنه سبحانه كريم بعفو عن طالبى عفوه ومغفرته، رحيم بعباده، يرحم ضعفهم، وما غلبتهم عليه أهواؤهم، إذا هم رجعوا إليه تائبين، مؤمنين، مصلحين- ما أفسدوا، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} [114: هود] ولهذا قدم سبحانه التوبة- فقال سبحانه: {إِلَّا مَنْ تابَ} أي عقد النية، وعزم على التوبة، ثم أتبعها بقوله تعالى: {وَآمَنَ} أي وقرن النية بالتوبة بالإيمان باللّه، وبكتبه ورسله، واليوم الآخر، فإن التوبة من غير إيمان باللّه، لا متوجّه إليها، ولا محصل لها.
ثم جاء قوله تعالى: {وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا} شرطا ثالثا لقبول التوبة، وتصحيح الإيمان، وهو العمل الصالح، فالإيمان بلا عمل، زرع بلا ثمر.
وقوله تعالى: {وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتابًا} لم يجىء هنا ذكر للإيمان مع التوبة، لأنه ذكر في الآية السابقة، ولأن التوبة لا تكون إلا من مؤمن، وذكر الإيمان في الآية السابقة للإلفات إليه، والتنويه به، وبأنه لا تقبل توبة إلا إذا زكاها الإيمان باللّه.
وقوله تعالى: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتابًا} أي يتوب توبة، فمتابا توكيد، وفي هذا إشارة إلى أن الذين ارتكبوا هذه المنكرات، قد بعدوا عن اللّه، وشردوا عن الطريق إليه، وأنهم حين عدلوا عن طريقهم، وأخذوا الطريق إلى اللّه- قد رجعوا إلى اللّه رجوعا حقّا، وأصبحوا في عباده المؤمنين المكرمين، غير منظور إلى شيء من حياتهم الماضية، التي كانوا عليها قبل أن يتوبوا، إنهم بعد التوبة والعمل الصالح، قد ولدوا ميلادا جديدا، ذهب به كل ما كان عليهم من أدران وأوزار، فتوبتهم حينئذ توبة مثمرة ثمرا طيبا، لأنها أثمرت هذه الأعمال الصالحة التي أتوا بها بعد توبتهم تلك.